قواعد رمضانية
من عناية الله سبحانه وتعالى بالعباد أنه لا يدع أثواب إيمانهم تبلى بل لا يزال سبحانه يجدد لهم فيها ويطهرها من أدرانها مرة بعد مرة ويمنّ بالفرصة بعد الأخرى مع تعاقب الليل والنهار وعلى مدار العمر كله وهذا المقصد يأتلف من جزئين:
- أحدهما أن هذا التجديد يشتمل على منحة ربانية محضة هي كالغنيمة الباردة وفي هذا المعنى روى الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"
- والثاني أنه تحفيز للعبد ليسارع في تغيير عوائد إلفِه فيجاهد في الانقلاب على ما كان سلف منه من قصور عن درك أهل السرور وما اثّاقلت عنه نفسه في ماضيه ليكون بعد التوبة مولوداً جديداً ذا صفحة بيضاء , ثم هو لا يرضى بالدون بعد ذلك فيعمد إلى ما تيسّر له من مركوب ينافس به أصحاب الخيل المضمّرة في ميدان الله الذي نصبه سوقا كبيرة مفتوحة للتجارة الرابحة فلا يغلق بابه إلا حين تبلغ الروح الحلقوم أو ينفضّ بالقيامة.
فهذا حال الظالم لنفسه إذا كانت لديه أثارة من يقظة القلب حين يقدُمُ إليه رمضان فكيف بالمقتصد فضلاً عن السابق بالخيرات, وإنما بعث الله رمضان رسولاً لينبه من هذه اليقظة غافلاً !
وكي لا يكون الكلام مرسلاً بلا خطام فدونك "قواعد رمضانية" مستلة من كتاب الله وسنة نبيه وسير الأماجد في هذه الأمة الخالدة:
- القاعدة الأولى: الزهد في السلع في موسم رواجها ودنو ثمنها مع الضرورة البالغة إليها حمقٌ مركب وسفاهة في العقل يتنزه عنها الهوام-كالنمل مثلا-..يدلك على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "رغم أنف امريء أدرك رمضان ولم يغفر له"(أخرجه الترمذي وأبوداود وأصله عند مسلم) كأنه يقول :إذا لم يغفر له في شهر مشرعة أبوابه للتوبة والإقبال مع ترتيب عظيم المنال فمتى؟ !
- القاعدة الثانية: رب النهار هو رب الليل ورب رمضان هو نفسه رب بقية الشهور قال الله عز وجل"إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض" وإن أهل المروءة تعف نفوسهم عن أن تبش لك في النهار وتقلب ظهر المجن في الليل بل هم على أخلاقهم قولاً واحداً, فما أقبح سوء الأدب مع الله عز وجل (رب العالمين!) حين يمسك أحدنا عن معصيته نهاراً ويبارزه المعصية ليلاً!!
- القاعدة الثالثة: تلاوة القرآن والقيام والجود بالصدقات من أهم أركان أعمال البر في هذا الشهر المبارك فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) متفق عليه.
ومن فهم السلف لفقه "أولى لك فأولى "كان إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفر من الحديث ومجالسه أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن وهذا درس بليغ في فقه المفاضلة بين العبادات.
وأما ماورد من ختم البخاري القرآن في كل نهار من رمضان ختمة وأن الشافعي كان يختمه في الشهر ستين ختمة وأمثال هذه الروايات فقد يُتوهم أنه مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ختمه في أقل من ثلاث,
وفي هذا يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان وهذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأمة وعليه يدل عمل غيرهم. انتهى
فإن سألت عن أفضل القيام فقيام رسول الله القائل :" أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سُدسه"( متفق عليه) واختلفت مذاهب السلف في تقسيم القيام على الليل فمنهم من كان يقومه كله ومنهم من يقوم نصفه..ومنهم من يقوم ماشاء الله له أن يقوم حتى يغلبه التعب والنوم -على أن في الليل خصوصية ينبغي أن تستحث أهل الكسل فكيف بأهل العمل؟فإن في الليل " لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا آتاه وذلك كل ليلة" (أخرجه الإمام مسلم وغيره) وهذا غير مختص برمضان كما ترى.
- القاعدة الرابعة : شهر رمضان مقياس دقيق لسمو النفس ودناءتها يدلك على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) متفق عليه.
وإذا كان مردة الشياطين - كما ورد في روايات أخرى- هي الموثقة وصغار الشياطين هي المطلقة وليس للصغار كبير مكر أو تأثير فهذا يقتضي أن من يكون ملازما للمعصية حتى وهو في رمضان فبضعف نفسه وهزال همته
- القاعدة الخامسة: المبالغة في جلب المطعومات يناقض الغاية السامية من شرعة الصيام ويحول الشهر من موسم عبادة إلى شيء كالعادة في البذخ والتخمة "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" وأنى لغاية التقوى أن تتحقق والعبد في فضول المباحات معلّق؟
- القاعدة السادسة: شهر رمضان محطة للأمل ومنطلق للفأل إذ هو شهر الانتصارات التي صنعت التاريخ كما ينبيك التاريخ نفسه من بدر وفتح مكة إلى الزلاقة وعين جالوت وشقحب وغير هؤلاء وهنا تلمح بارقة تلمع في أفق الفكر تُبِين عن عظمة الإسلام فالشهر الذي قد يظنه بعضهم مدعاة للخمول والنوم والأكل كان حافلا بهذه الأمجاد المؤثلة حتى غدا اسمه لصيقا بالجهاد في حس المؤمن وكأن الصيام الذي هو إمساك عن شهوتي الفرج والطعام إلى الغروب كان في حد ذاته شروقا في ضمير المؤمن الحي فلم يكن كابحاً عن المعاصي فحسب بل حافزاً له لارتقاء ذرى المجد بالهمة العالية.
- القاعدة السابعة: شهر رمضان شهر تغيير وإن من شأن الله تعالى أنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فكان من عظيم لطفه أن أوقفهم على أيام معدودات أوجب عليهم فيها ما يفترض أن يكون عائدا عليهم بإصلاح ذواتهم من طريق رفع هممهم بدروس الصبر عما هو حلال أصالة فذلك أحرى أن تشتمل الدروس على الدربة على ترك مواقعة الحرام,فيتعاهد الله بهذا عباده وهو من جميل لطفه بهم كما قررنا في طليعة المقال.
- القاعدة الثامنة : في هذا الشهر ليلة هي خير من عُمر فأي الفريقين أفدح خسارة..؟ مَن جمع المال و قد تجشم في سبيل جمعه النفيس وبذل في طريقه الغالي من وقته وصحته وجهده فأصاب ثروته التباب أم من ضيع هذه الليلة المباركة وقصاراها عكوف بضع ساعات أو أكثر وهي في عين الله خير من مئات الأشهر ..؟ كما قال سبحانه "ليلة القدر خير من ألف شهر" وليس هذا الفضل بفائت مؤمنا قط إن كان عقد العزم عليه فلتهنأ بذلك نفسا كل من ألم به عارض كأخواتنا الحيّض-مثلا- ودليل هذه البشارة بعد عظيم فضل الله قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم ما مسيرا ولا قطعتم واديا إلا حبسهم المرض" وفي رواية "إلا شركوكم في الأجر" (رواه أحمد ومسلم وغيرهما)..
فمفاد هذه القاعدة إذن:لا تفرط في هذه الليلة ولو اقتطعت إجازة من عملك وارتحلت ما أمكنك ذلك .
- القاعدة التاسعة : اجعل رمضان فرصة لغفران أحقادك أو معاتبك إخوانَك ممن آذوك أو قصّروا في حقك واعلم أنك أول رابح بهذا الصنيع الذي يجلو القلب بما لا يجلوه قيام ليل طويل وإنها لكبيرة إلا على النبلاء الذين يبيعون أعراضهم لله عز وجل .
- القاعدة العاشرة: هذا الشهر شهر عفة المنطق فإن الذي حرم على اللسان لعق الطعام في نهاره وهو حلال في غيره إنما شرع ذلك لتحقيق غاية ينتظمها معنى التقوى ومما يندرج فيها يقينا: الوقاية من آفات اللسان المحرمة أبد الدهر ,من غيبة ونميمة وشتيمة وكذب وغيرها فلَتحريم هذه في رمضان أولى
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :"الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم"رواه البخاري ومسلم وفي قوله عليه الصلاة والسلام :إني امرؤ صائم توجيه شريف فيه تذكير للشاتم بقداسة الشهر وزجر للنفس من أن تطلب النصر